- Maestroوسام التواصل
- الجنس :
عدد المساهمات : 587
المزاج : تمام
العمر : 32
تاريخ الميلاد : 29/07/1992
النقاط : 1584
العمل : مصمم من الدرجة الاولى
MMS :
مُساهمةموضوع: تعريف الصابئة 2
الأربعاء مايو 01, 2013 8:45 pm
وجدت من المناسب أن ابتدئ الحديث عن التوحيد الصابئي المندائي بذكر نصوص من
كتابهم المقدس ( كنزا ربا ) الكنز العظيم لتكون مدخلا لمعرفة هذه الديانة
وإضاءة أسسها التي تستند أليها وجواهرها التي قامت عليها .. (باسم الحي
العظيم .. مسبّحٌ ربي بقلبٍ نقي .. هو الحي العظيم.. البصير القدير العليم
العزيز الحكيم.. الأزلي القديم.. هو العظيم الذي لا يرى ولا يحد لأشريك له
في سلطانه ولا صاحب له في صولجانه.. هو الملك منذ الأزل لا أب له ولا ولد
ولا يشاركه ملكه احد.. موجود منذ الأزل .. باق ٍ إلى الأبد(1) ( قل يا
عبادي لا تزنوا ولا تسرقوا ولا تنتهكوا حرمات الناس.. لا تكنزوا الذهب
والفضة فالدنيا باطلة ومقتنياتها زائلة.. لا تسجدوا للشيطان ولا تعبدوا
الأصنام والاوثان.. صوموا الصوم الكبير.. صوم القلب والعقل والضمير.. يا
أصفيائي لا تقربوا الملوك والسلاطين والمردة في هذا العالم ولا تثقوا بهم
.لا بأسلحتهم ولا بحشودهم ول تلووا أعناقكم للذهب والفضة التي يكنزون أنها
سبب كل فتنة سيتركونها وراءهم يوم إلى النار يذهبون .. لا تأكلوا الدم ،ولا
الميت، ولا المشوه، ولا الحامل ولا المرضعة ولا التي أجهضت ولا الجارح ولا
الكاسر ولا الذي هاجمه حيوان مفترس وإذا ذبحتم فاذبحوا بسكين من حديد..
إذا اتخذتم لأنفسكم أزواجا فاختاروا من بينكم وأحبوهن وليحفظ أحدكم الأخر.
هبوا الخبز والماء والمأوى لبني البشر المتعبين المضطهدين .. إياكم
والهُزءَ بمعوق أو السخرية من ذي عاهة . أن الأجساد قد تبتلى بالأوجاع ولكن
نشماثا ( الأنفس) لا تهان ولا تزدرى ألا بإعمالها. أن عكازتكم يوم الحساب
أعمالكم التي عليها تتوكأون فانظروا إلى ماذا تستندون)(2) يعتبر الدين
الصابئي المنداني من أقدم الديانات الموحدة بل هو أقدمها على الإطلاق لان
جذوره تمتد بعيدا في حضارة وادي الرافدين القديمة منذ العهد السومري ومن
بعده الاكدي والبابلي وقد أثارت هذه الديانة حولها كثيرا من الخلافات في
وجهات النظر والآراء المتعددة وان قراءة دقيقة متأملة لما ورد فيها من
عقائد وشعائر ومثولوجيا ستضعنا أمام تلك الحقيقة حقيقة قدم هذه الديانة
وتأثيرها في الوسط الذي نمت وعاشت فيه وتأثرها به في الوقت نفسه لقد أكد
معظم الباحثين والمؤرخين العرب المسلمين القدامى على قدم الديانة الصابئية المندائية
بعد أن ورد ذكرهم في القران الكريم باعتبار ديانتهم ديانة موحدة قائمة
بذاتها حالها حال الديانات الكتابية التي ذكرت فيه في ثلاث سور مباركة هي
سورة البقرة ، وسورة المائدة، وسورة الحج .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنزا ربا/ اليمين/ الكتاب الأول التسبيح الأول/ التوحيد
(2) كنزا ربا / اليمين / الوصايا
(
أن الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم
الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1)
فالقران الكريم إذ يذكرهم مع اليهود والنصارى أنما يعتبرهم موحدين مؤمنين بالله واليوم الأخر.
وقد
اختلف الرأي فيهم فالبعض اعتبرهم وثنيين عبدة كواكب والبعض الأخر عدهم من
أهل الكتاب كما ورد في القران الكريم .. فقد ذكر ابن النديم في كتابه
الفهرست من مذاهب الحرانية الكلدانيين المعروفين بالصابة .فأورد حكايتين
مطولتين الأولى مكتوبة بخط احمد ابن الطيب تلميذ الكندي ، والكندي كما يقول
ابن النديم من عظماء الفلاسفة وأفذاذ المفكرين كان يعرف السريانية
واليونانية والهندية والفارسية لذا فان ما ورد في حكايته يطابق ما نجده في
الكتابات المندائية ولا سيما فيما يخص الأيمان بالله واليوم الأخر.
قال
ابن النديم ( حكاية من خط احمد بن الطيب في أمرهم حكاها عن الكندي: اجتماع
القوم على إن للعالم علة ولم يزل. واحد لا يتكاثر لا يلحقه صفة شيء من
المعلولات كلف أهل التمييز من خلقه الإقرار بروبيته وأوضح لهم السبيل وبعث
رسلا للدلالة وتثبيتا للحجة أمرهم أن يدعوا إلى رضوانه ويحذروا غضبه ووعدوا
من أطاع نعيما لا يزول ووعدوا من عصى عذابا واقتصاصا بقدر استحقاقه)
وتستمر الحكاية( بان دعوة هؤلاء القوم كلهم واحدة وسنتهم وشرائعهم غير
مختلفة وان قبلتهم واحدة فقد صيروها لقطب الشمال وقصدوا بذلك البحث عن
الحكمة وان المفترض عليهم من الصلاة في كل يوم ثلاث ولا صلاة عندهم الأعلى
طهور والمفترض من الصيام ثلاثون يوما وعليهم الغسل من الجنابة وتغيير
الثياب ومن مس الطامث ويتركون الاختتان ولا يحدثون على فعل الطبيعة حدثا
ويتزوجون بشهود وفريضة الذكر والأنثى سواء ولا طلاق إلا بحجة بينة عن فاحشة
ظاهرة ) وتستمر الحكاية ( بان الثواب والعقاب عندهم إنما يلحق الأرواح
ويقولون النبي هو البريء من المذمومات في النفس والآفات في الجسم والكامل
في كل محمود ويكون مذهبه ما يصلح به العالم.وقولهم في النفس أنها دراكة لا
تبيد وأنها جوهر وليس بجسم ولا يلحقها لواحق الجسم ) ( وقال الكندي انه نظر
في كتاب يقر به هولاء القوم وهو مقالات في التوحيد على غاية من التقانة في
التوحيد لا يجد الفيلسوف إذا اتعب نفسه مندوحة عنها والقول بها )( 2 ) ان
حكاية الكندي هذه توضح ان صابئة حران هم قوم موحدون وهم كصائبة جنوب العراق
المندائيين يؤمنون بالله وباليوم الأخر. وتتفق مع مضمون الآيات القرآنية
وهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى أن صائبة حران هم أخوة في الدين مع صابئة
البطائح في جنوب العراق بالرغم من وجود أقوام انتحلت هذه التسمية في حران.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة – أية 62
(2) ابن النديم الفهرست ( 442 – 445 ) ينظر كتاب مفاهيم مندائية / ناجية مراني
ثم
يذكر ابن النديم الحكاية الثانية التي ترجع إلى زمن المأمون وهي منقولة عن
أيشع ألقطيعي النصراني أراد بها الإساءة إلى صابئة حران وعموم الصابئة فلفق الكثير من الأفكار ودس العديد من التهم التي لاتمت إلى الصابئة بصلة وذالك بدافع الحقد والضغينة حيث كان البلاط العباسي يزخر بالعلماء والأطباء والفلكيين والمترجمين والأدباء من الصابئة المندانيين . وقد أشار العالم العربي المعروف البيروني في كتابة ( الآثار الباقية عن القرون الخالية ) ما ذكره بعضهم عن الصابئة
يقول ( حكى عنهم ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقص نحلتهم
فحشاه بالكذب والأباطيل، ونحن لا نعرف عنهم إلا أنهم أناس يوحدون الله
وينزهونه ) (1)
كما تحدث الشهرستاني في كتابه ( الملل والنحل)(2) عن الصابئة لا سيما عن الجانب المتعلق بالمعرفة أو العلم الإلهي ويشير إلى ان الصابئة
يوحدون الله تعالى وتشتمل عقائدهم على تلقي المعرفة العليا الإلهية بواسطة
الروحانيات . ويجري بينهم وبين الأحناف مناظرة كانت تدور حول الروحانيات
التي يتعصب لها الصابئة
ويتعصب الأحناف للماديات ويقول عن فعل الروحانيات والملائكة يستمدون القوة
من الحضرة القدسية ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ثم يذكر ان
الصابئيين كلهم يصلون ثلاث صلوات ويغتسلون من الجنابة ومن مس الميت وحرموا
أكل الجزور والخنزير ومن الطير كل ماله مخلب وأمروا بالتزويج بوليٍّ أو
شهود ولا يجوز الطلاق إلا بحكم حاكم كما أورد ابن النديم أمورا مهمة عن الصابئة منها ( يوم دخل العرب المسلمون العراق قام أنش دنقا رئيس كهنة الصابئة آنذاك لمقابلة قائد المسلمين يحمل معه الكتاب المقدس للصابئة ليبين له ان قومه من أهل الكتاب وقد اقره على ذلك.
وقال ابن النديم عن احمد بن عبد الله بن سلام مولى هارون الرشيد( ترجمت هذا الكتاب ويقصد
به
( الكتاب المقدس ) من كتب الحنفاء وهم الصابيون الإبراهيمية الذين امنوا
بإبراهيم عليه السلام وحملوا عنه الصحف التي انزلها الله عليه وهو كتاب
فيه، ألا أني اختصرت منه ما لا بد منه ) وقال المترجم احمد بن سلام ( ترجمت
هذا الكتاب والصحف والتوراة والإنجيل وكتب الأنبياء والتلامذة من
العبرانية والصابية وهي لغة أهل الكتاب إلى اللغة العربية)(3). كما ذكر ابن
أبي اصيبعة ان المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي مصنف كتاب ( شرح مذهب
الصابئي ) ترجم كتاباً إلى العربية بعنوان السور والصلوات التي يصلي بها
الصابئون )(4) لقد اتسمت كتابات ابن النديم في كتابه( الفهرست) والشهرستاني
في كتابه(الملل والنحل) بشيء من الموضوعية حيث أنهما ذكرا الآراء المختلفة
التي كانا يعرفانها في تلك الفترة وقد أكد كلاهما أن الصابئة يؤمنون بالله وباليوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. البيروني/ الآثار الباقية عن القرون الخالية
2. الشهرستاني/ الملل والنحل
3. ابن النديم/ الفهرست
4. ابن أبي اصعيبه /عيون الإنباء في طبقات الأطباء(2ص 199)
الأخر
ولديهم طقوس يقيمونها، كما إن لديهم أحكاما وفرائض يلتزمون بها كالصلاة
والصوم والزكاة وتحريم السكر كما أنهم يحرمون لحم الخنزيروالاختتان. ولهم
أحكام في الزواج والطلاق ومع هذا فقد شاب الكثير من أرائهم الخلط والضعف
شانهم في ذلك شأن العديد من الكتاب والباحثين التراثيين حيث جاءت اغلب
كتاباتهم تنقصها الدقة والتمحيص. وعن الذين تحدث عنهم أبو حنيفة ( أنهم
ليسوا بعيدة أوثان وانهم يعظمون النجوم كتعظيم المسلمين الكعبة ويؤمنون
بدين نبوي ويقرون بكتاب ) (1) ويقول عنهم الشيخ محمد جواد مغنية (2) أنهم
أقدم الأديان ( يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء )، كما ذكرهم العلامة
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في كتابه حسن المحاضرة (3)( إن النبي إدريس
عليه السلام دعا الخلق الى الله تعالى فأجابوه وكانت عقيدته الصابئية وهي
توحيد الله تعالى والطهارة.) كما يؤكد معظم الباحثين المحدثين على ان الصابئة
المندائيين موحدون يؤمنون بالروحانيات. يقول العقاد في كتابه ( أبو
الأنبياء) (4): ان دين الصابئين كما هو مدون في كتبهم الدينية يتلخص في
أنهم يؤمنون بالله واليوم الأخر ويؤمنون بالحساب والعقاب وان الأبرار منهم
يذهبون بعد الموت إلى عالم لنور وان المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام ولا
يفرض الصوم عليهم بمعناه المعروف وهو الامتناع عن الطعام والشراب إنما
يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لهم خمسة أسابيع متفرقة أيامها على طول
السنة وهم ينزهون الله غاية التنزيه ويعتقدون ان مقر الملائكة(ملكي) هو في
الكواكب نفسها لذلك فهم إنما يعظمون هؤلاء الملائكة لا الكواكب نفسها وليست
لديهم هياكل أو أصنام ولابد عندهم في عقيدتهم من مخلوق متوسط بين
الروحانية والمادية يهدي الناس إلى الحق فالروحانيات لديهم مخلوقة من كلام
الله عزّ وعلا دعاها بأسمائها فوجدت وان كلام الله إلى الناس لا يصل ألا
بواسطة مخلوق بين النور والتراب) .ويقول كذلك ( ولا يعرف دين من الأديان
تخلو عقيدة الصابئة
من مشابهة له في أحدى الشعائر …. والمحقق من أمرهم أنهم يرجعون إلى اصل
قديم لان استقلالهم باللغة الدينية والكتابة الأبجدية لم ينشا في عصر
حديث). ومن الدراسات الحديثة التي تناولت المندائية وفق منهج اركيلوجي تاريخي علمي مقارن هي دراسة الدكتور خزعل ألماجدي في كتابه( جذور الديانة المندائية) (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.ينظر كتاب ناجية مراني/ مفاهيم صابئية مندائية ، ناجيه مراني2
2. التفسير الكاشف- محمد جواد مغنية-بيروت -2ص117
3.جلال الدين السيوطي- حسن المحاضرة
4.العقاد- أبو الأنبياء- 108
5.خز عل ألماجدي- جذور الديانة المندائية
إذ
استطاعت هذه الدراسة ان ترجع أصول هذه الديانة وجذورها الى الديانة
السومرية التي هي اصل الديانات التاريخية في العالم كله على حد قوله فهو
يرى( ان اصول الصابئية القديمة تكمن في الديانة السومرية ولكن نشأتها تبدأ
من النمو تحت شبكة العقائد الاكدية والبابلية الجديدة) ويقول ( وبعبارة
واحدة يمكننا القول ان الدين الصابئي المندائي هو ما تبقى او بقايا الدين
السومري وهذا وحده هو الذي يفسر قول المندائيين عن دينهم بانه اقدم الأديان
على وجه الأرض ) ومن خلال هذا المنظور فان الباحث يتقاطع مع كل الآراء
التي ترجع أصول الديانة الصابئية المندائية الى اصول الديانات البابلية او الى أصول يهودية او يونانية او فارسية او مسيحية . والصابئة
المندائيون يعتقدون أنهم غرس التوحيد الأول وان ديانتهم هي الأقدم منذ أدم
وشيت وسام ويحيى (عليهم السلام) ولابد لنا من الإشارة الى الدور الكبير
الذي اضطلع به المستشرقون المهتمون بالديانة المندائية والذين اطلعوا على أهم كتبها المدونة باللغة المندائية
الارامية وتقصوا ما فيها من طقوس وعقائد واساطير وقد تمت ترجمتها الى
اللغة الأنكليزية والألمانية لاسيما الكتاب المقدس (كنزا ربا) ونخص بالذكر
من هؤلاء المتشرقين ليدزبارسكي الذي قام بترجمة أهم الكتب المندائية
الى الألمانية ومنها كتاب كنزا ربا (الكنز العظيم) وكتاب (دراشة إدبهيا)
مواعظ وتعاليم يحيى بن زكريا (عليه السلام) في عامي 1925 و 1905 وكذلك
الليدي دراور التي عاشت في العراق ما يقرب من ربع قرن وأنصرفت الى دراسة المندائية
فأتقنت لغتها كما أتقنت السريانية والعربية فنشرت كتابها الأول
(المندائيون في العراق وايران) عام 1937 كما وضعت بالتعاون مع رودولف قاموس
اللغة المندائية
عام 1963 أما عن وجود الصائبة المندائيين فقد مال أغلب الباحثين المتشرقين
المهتمين بهذه الديانة الى النظرية الغربية التي ترى انهم كانوا في فلسطين
وحوض نهر الأردن ضمن طوائف البحر الميت تستند في ذلك الى ظهور شخصية يوحنا
المعمدان، يحيى بن زكريا (ع) هنالك حيث كان يعمد الناس في نهر الأردن وقد
عمد ابن خالته السيد المسيح، ولكن تحت ضغط المؤسسة الدينية اليهودية التي
مارست العنف والاضطهاد ضد المندائيين بأعتبارهم معارضين بل مناوئين لسلطتهم
السياسية ولآرائهم ومعتقداتهم وتحريض الناس ضدهم هاجر عدد كبير منهم الى
حران ومنها الى جنوب العراق وقد ذكر هذه الهجرة كتاب (حران كويتا) حران
السفلى وهو من الكتب المندائية
التي تحدثت تاريخياً عن جزء من تاريخ المندائيين الضائع حيث لم يكن
المندائيون مهتمين بتدوين تاريخهم، اما النظرية الثانية فهي النظرية
الشرقية التي ترى ان الوجود الأول لهم كان في جنوب العراق حيث وفرة المياه
وملاءمة المناخ ووجود عناصر مشتركة بين العقائد والطقوس والمثلوجيا المندائية
وبين ديانات وادي الرافدين القديمة اذ كان للماء والنور دور واضح فيها (من
يردنا العظيم الماء الجاري أنبثقت النطفة الأولى)( ) (صار الماء الحي
الماء المتألق ومن المياه الحية نحن الحياة صرنا)( ) (لا حد للنور لا يوجد
حد للنور ولا يدرى متى صار، ما صار الا بوجود الحي العظيم)( ). ورد هذا في
الكتاب المقدس للصائبة المندائيين (كنزا ربا) ونحن نميل أنهم ظهروا في جنوب
العراق للأسباب التي ذكرت.ولوجود ذكر لنهري دجلة والفرات والفرات في المندائية يسمى (فراش زيوا) فرات الضوء وان المثلوجيا المندائية
في بعض صيغها وابنيتها تكاد تكون مشابهة للمثلوجيا الرافدينية القديمة ..
بعد هذا من اين جاءت تسمية الصابئه المندائيين .. ما إن جاء ذكر الصابئين
في القرآن الكريم حتى كان حافزاً لتناول هؤلاء القوم بالبحث والدراسة من
لدن كتاب التراث العربي فقهاء ومؤرخين ولغويين.
فيرى معظم اللغويين أن
مفردة صابئي من الجذر صبأ وقالوا : صبأ خرج من دين الى اّخر .. لذا فقد
اطلقت قريش على الرسول (ص) كلمة صابئي وكذلك على الذين آمنوا برسالته .. اي
أنهم تركوا دين إبائهم وهو على الوثنية وجاءوا بدين جديد غيره ونعتوا عمر
وابا ذر الغفاري والصحابه كونهم صابئين. وحين أسلم الشاعر الجاهلي لبيد (4)
وهو صاحب احدى المعلقات قالوا عنه جاء بدين الصابئين.. ولأن التعاليم التي
جاء بها الإسلام من توحيد وآخرة وثواب وعقاب وجنه ونار مشابهه لمعتقدات الصابئة
المندائيين في كثير من جوانبها.لذا فأن قريش لم تنعت المسلمين الاوائل
باليهودية أو النصرانية أو المجوسية وانما نعتهم بالصابئين (5) وهذا ما
يجعلنا على يقين ان الصابئين كان لهم وجود وتأثير وان ديانتهم كانت معروفة
على نطاق واسع.
اما الجذر الحقيقي لكلمة صابئي فهو من (صبا) الآرامية التي تعني تعمد او ارتمس في الماء للتطهير وهي من الشعائر المندائية
التي تمارس حتى يومنا ، ويطلق المندائيون على هذه الشعيرة (الصباغة)(6) من
الفعل صبغ الذي يقترب من معنى الفعل (صبا) الآرامي وصبغ يعني غمس او تغيرّ
وتشير كذلك الى معنى ديني هو التطهر .. ويذكر البيروني في حديثه عن الصوم
كلمة صبغ بمعنى تعمد فيقول (ويوم المعمودية الذي صبغ فيه يحيى المسيح وغمسه
في ماء المعمودية بنهر الاردن عند بلوغه الثلاثين) .. وكلمتا الصابئي
المندائي تسميتان لمعنى واحد فكلمة مندائي مشتقة من كلمة (مندا) الاراميه
والتي تعني المعرفة أو العلم وبهذا يكون الصابئي المندائي : المتعمد بالماء
صاحب العلم والمعرفة لهذا فالديانة المندائية
ديانة عرفانية غنوصية. وكلمة غنوص كلمه يونانية (gnosis ) ومعناها المعرفه
وتستخدم بمعنى العلم والحكمة .. والغنوصيه مذهب شاع في القرن الثاني
الميلادي رغم ان جذوره تمتد بعيداً قبل الميلاد ومنذ وجود وانتشار الديانة
السومرية مرورا بالديانات والمذاهب الوثنية والموحدة وبالعصر الهلينستي .. (
إن المندائية
هي الغنوصية وهي العرفانية بأدق واكمل اشكالها ) كما يقول الدكتور خزعل
الماجدي (1) . وهي بذلك تؤسس طريقة لادراك المعرفة العليا وكنه الاسرار
الربانية. وهذا ما يقابله ( الكشف ) عند الصوفية لذا فأن رجال الدين
المندائيين لايقرون علنية الدين لأن ذلك يتعارض وباطنيته.. ويقول الباحث
محمد عبد الحميد الحمد في كتابه ( صابئة حران والتوحيد الدرزي) (2) (اثر الصابئة
في النزعات الصوفية ومذاهب التوحيد ومنهم ( الدروز ) الذين هم قوم آمنوا
بالله وباليوم الاخر ولهم جذور عريقة في الفكروالتاريخ يقول ايضاً (الصابئة
ديانة عرفانية سرية كان مقرها حرّان في شمال سوريا وهم اتباع ابراهيم
الخليل (ع) ويدعون ( الحنوفون ) ويقصد بهم الأحناف .. وقد برز نشاط الافكار
الغنوصية في القرن الاول الميلادي واتسع في القرنين الثاني والثالث وفق
انظمة فكرية متعددة بتعدد الفرق والطوائف التي ضمتها خيمة الغنوصية .. (ولم
يبق من فرقها اليوم سوى المندائية
)(3 وقد عارض دعاة المسيحية الاوئل لاسيما في القرن الاول الميلادي
الدعوات الغنوصية مما ادى الى الاصطدام بها ومحاربتها واعتبار كل دعوة خارج
حدود الأناجيل الأربعة هرطقة لايجوز التعامل معها ورفض اية فكرة تمس
الأيمان وتضع العقل في منزلة اعلى من منزلة الأيمان .. والغنوصية تقوم على
اساس تحرير النفس البشرية التي هي نسمة ( نشمثا ) او قبس من الله من الجسد
الذي هو بمثابة سجن والتحاقها بالعالم العلوي الذي هبطت منه وهذا يذكرنا
بقصيدة الفيلسوف ابن سينا التي مطلعها : هبطت اليك من المحلِ الارفع ورقاءُ
ذاتُ تعزز ٍ وتمنع ِ
ويقصد بذلك هبوط النفس الى جسد الإنسان وهذا دليل
على انتشار أفكار وعقائد الغنوصية ويقول احد دعاة الغنوصية ( فالنتينوس)
(ان من يملك قلباً طاهراً . لم تدنسه الخطيئة ويشع بالنور . فأنه يبارك
برؤية الله ) لقد لاحظنا ان اغلب الذين تناولوا الدين الصابئي المندائي
اشاروا الى حقيقتين اولهما قدم هذا الدين كونه سابقاً على جميع الديانات
الموحدة وثانيهما انه دين توحيدي يؤمن بالله وباليوم الأخر وبالعقاب
والثواب وبالجنة والنار وهي اهم الثوابت المشتركة بينه وبين الديانات
الأخرى فبالنسبة للتوحيد يؤمن الصابئة المندائيون بوجود اله واحد خالق الكون. .. والحياة والكائنات الروحية النورانية والكائنات المادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خزعل الماجدي – مجلة الطيف المندائي العدد الثاني
2- محمد عبد الحميد/ صابئة حرن والتوحيد الدرزي
3- عزيز سباهي- اصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية
(هو
العظيم الذي لا يرى ولا يحد هو الملك منذ الأزل، لا أبَ له ولا ولد ولا
يشاركه ملكه أحد)(1 وبهذا التوحيد لله وتنزيهه يلتقي الدين المندائي
بالديانات الموحدة الأخرى لاسيما مع الدين الإسلامي فالتسبيح الأول من كتاب
كنزا ربا (الكنز العظيم) الخاص بالتوحيد يقترب كثيراً مما ورد في القرآن
الكريم لاسيما الأسماء الحسنى. والملاحظ ان اغلب نصوص الكتاب المقدس كنزا
ربا لابد من الإشارة فيها الى الله الذي يطلق عليه الحي العظيم، الحي
الأزلي (هيي قدمابي)، ملك النور السامي (ملكا اد نهورا) الله الذي انبثق من
ذاته (الها اد من نافشي افراش) وبأرادبه كان كل شيء (الكون والخليقة
والحياة والإنسان) والعبارات الثلاث التي تتكرر في أكثر من نص من نصوص
الكتب المندائية
(‘اكاهيي، ‘اكاماري، إكامندا دهيي) معناها (الحي موجود، المولى موجود،
عارف الحياة العليم موجود) تمثل قمة التوحيد وهذه العبارات الثلاث بتداولها
المندائيون باستمرار. ويذكر اسم الحي الأزلي في جميع الطقوس المندائية
بل هو فاتحة كل نص أو شعيرة، والصفات التي تطلق عليه إنما تطلق مجازاً فهو
فوق كل صفة أو نعت. ويؤمن الصابئه المندائيون باليوم الأخر وبالثواب
وبعودة النفس الى بارئها بعد الموت إذ تؤكد معظم النصوص الدينية خاصة في
الكتاب المقدس وفي كتاب مواعظ وتعاليم يحى (ع) (دراشة اديهيا) على ان النفس
(نشمثا) بعد الموت تعرج إلى السماء وصولا إلى عالم الأنوار ( الجنة) (
الما دنهورا) متحررة من سجن الجسد المجبول من التراب والطين لتلتحق بعالمها
الذي جاءت منه فهي أسيرة وفي الموت خلاصها وتحررها لترجع إلى مكانها
السامي الذي هبطت منه وبهذا فالموت في الديانة الصابئه المندائية
تحرر وانعتاق وعودة إلى عالم الأنوار والخلود الأبدي. ولابد لنا ان نذكر
ما جاء في القرآن الكريم (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربكِ راضية
مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي) والنفس بعد الموت في المندائية
تظل ثلاثة أيام تتردد بين القبر والبيت بعدها تبدأ رحلتها نحو السماء لتصل
إلى محطات الحساب والتطهير (مطراثي) فيسألها الملائكة الموكلون عن أعمالها
فتقف في مطهر الملاك أباثر موزانيا ملاك الميزان لمعرفة درجة نقائها
وطهرها مقارنة بنقاء نفس شيت (شيتل) بن آدم فأن ماثلتها فأنها تمر بسلام
عبر المطاهر الأخرى حتى تصل إلى عالم الأنوار وأن كانت مثقلة بالذنوب
والسيئات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كنزا ربا – اليمين / التسبيح الأول- التوحيد
فستعاني كثيراً حتى تتطهر لتصل إلى العالم المنشود وفي الديانة المندائية
مصطلحان النفس والروح. النفس تمثل النقاء والطهر والخير والخلود لأنها
نفحة أو نسمة من الله وهي في صراع مع الروح داخل الجسد التي تمثل الغرائز
والنزوات المادية للجسد وتحاول النفس ان تحد من نشاطها وهذه مهمتها فأن
فشلت او عجزت فستحاسب كما رأينا. وهنالك نصوص عديدة في كتاب كنزا ربا
تتناول صعودها وعروجها ومرورها بالمطاهر. وهذه مقتطفات منها :
(صرخة،
صرختان، صرختان اثنتان، انهما معاً جالستان، تبكيان وتتعلمان .. الروح
ونشمثا (النفس) .. الروحُ تقولُ لنشمثا: بحياتكِ يا أختاه .. بحياة كلَّ
تلك السنين .. خذيني معكِ حين تنطلقين – كيف آخذكِ معي الى من ادق بابه،
وانتِ روح كذّابة ؟ إنكِ يا أختاه تكذبين .. انتِ لا ترين وتكذبين وصاحبُ
الميزان، الذي لا يحابي انسان .. والذي يزن الأعمال ويرفعها الى الديان كيف
اوصلك اليه ؟ وكيف ادخلك عليه ؟ إنه يصعد الكامل لكماله .. ويمسك بالناقص
لسوء أعماله .. فكيف اخرج بكِ من اقفاله ؟)(1
(باسم الحيّ العظيم .. يا
عصافير القفار الجالسة فوق قناديلها . ماذا من القفار تأكلين ؟ .. وماذا
من القناديل تشربين ؟ وبماذا في طريقك تتزودين ؟ يا عصافير القفار .. لا
الفضةُ ولا النضار، زاد في الطريق يكونان .. ولا المال ولا المرجان ..
الصدقة والأحسان وثبات قلبك في الأيمان .. ذاك هو زادك في طريقك الى
الديان)(2).
(بأسم الحيّ العظيم .. أسمع صوت نفس ما، وهي تخرج من جسد
الحرمان .. من داخل هذا العالم خرجت . اسمعها تقول: عارية اتيت الى هذا
العالم فارغة منه اخرجوني .. مثل عصفور لم يرافقه شيء .. ثم التفتتْ الى
الهيكل الذي منه خرجت : ماذ افعل بك يا جسدي ؟ الباقي في هذا العالم ماذا
افعل بك ؟ يا جمال جسدي الذي سيأكلك في القبر الدود .. ماذا أفعل بك ؟ يا
قميص الورد ماذا افعل بك . لو كنت ثوب ضياء ونور للبستك يا جسدي ولصعدت معي
الى بيت هيي (الحي) .. لو كنت اكليل ضياء ونور لضفرتك على رأسي ولصعدت معي
الى بيت هيي .. ماذا افعل بك يا جسدي وانت من طين جبلت
؟)(3)._______________________
1- كنزا ربا اليسار – التسبيح الخامس
والعشرون 2- كنزا ربا اليسار / التسبيح الخمس والثلاثون 3 - كنزا ربا
اليسار – التسبيح الثامن والثلاثون
فالجسد في الديانة المندائية،
زائل وهو من عالم النقص والعوز .. العالم السفلي : العالم الزائل، عالم
الظلام، والنفس من عالم النور، العالم العلوي، عالم الخلود الذي انفصلت منه
واليه تعود .. وتشترك جميع الديانات الموحدة ان الله خلق آدم من طين
وتراب، والديانات الرافدينية القديمة يشير كثير من نصوصها ان الآلهة خلقت
الإنسان من الطين كذلك .. ففي كنزا ربا تتوفر تفصيلات كثيرة في عملية خلق
آدم وتؤكد ان الحي الأزلي أمر الملائكة بخلقه فجبل من التراب والطين ..
(ومن التراب والطين الأحمر والدم والمرارة ومن سرّ الكون جبل آدم وحواء
زوجة وحلّت فيهما نشمثا (نفس) بقدرة ملك النور)(1). وفي القرآن الكريم يتم
خلق آدم من الطين .. (إذ قال ربُك للملائكة أني خالق بشراً من طين فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)(2) (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال
من حمأ مسنون)(3).
(إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون)( ) وجاء في العهد القديم (ثم جبل الرب الإله آدم من تراب الأرض ونفخ
في أنفه نسمة حياةٍ فصار ادم نفسْاً حية)( ) .. كما تشترك جميع الديانات
الموحدة ومنها الديانة المندائية بوجود الملائكة وهي كائنات غير مرئية تسمى في المندائية
(ملكي) وترافقها كلمة (أثري) وتعني كائنات نورية وتسمى ملائكة النور
وملائكة الضوء وقد خلقها الله وأوكل لها مهمات عديدة منها حراسة الحياة
والناس والمراقبة والمحاسبة وتنفيذ أرادته السامية. كما ان بعضهم قام
بعمليات خلق بأمر منه. وكثير من النصوص المندائية تحفل بعدد كبير منهم وبأسمائهم وبهذا تشترك المندائية
مع أخواتها الديانات الموحدة بالأيمان بوجود الملائكة ونلاحظ ذلك أيضاً في
القرآن الكريم وفي العهد القديم وفي الأناجيل .. ان الشعائر والطقوس في
جميع الديانات الموحدة وحتى في الديانات القديمة الوثنية تعتبر الجانب
العملي والتطبيقي للعقائد والأفكار التي تمثل الجانب النظري تشترك بصلات
عديدة في الشكل والمحتوى وان اختلفت في بعض التفصيلات ففي جميعها صلاة وصوم
وزكاة وشعائر تقام للزواج والوفاة وطقوس للتطهر من الخطيئة وتقدميات أو
تضحيات. فالصلاة في الديانة المندائية تعد من الشعائر المهمة وهي تقترب في مظهرها ومحتواها من الصلاة في الإسلام ففي المندائية تبدأ الصلاة بالرشامة (الوضوء) والرشامة
مصدر
من رشم في العربية تقول رشمت الطعام ارشمه إذا ختمته(1) وتعني أيضاً
الاغتسال بالماء والرشامة هي رسم المندائيين وختمهم .. يقول المصلي أثناء
الرشامة وهو واقف عند الماء (روشما الاوي لا هوا بنورا ولا هوا بمشّا ولا
هوا ادمشيها، رشماي بيردنا (الماء الجاري) ادميا هيي) ومعناها : ليس رسمي
بالنار (يقصد المجوس) وليس بالزيت (يقصد اليهود وليس بالمسح (يقصد
المسيحيين) رسمي هو الماء الجاري، ماء الحياة .. ثم يبدأ برسم جبهته بالماء
(غسلها) من اليمين الى اليسار، ويغسل الأذنين والأنف والفم وغسل الركبتين
والرجلين وتذكر التراتيل مع كل جزء من الجسم الذي تم رسمه بالماء وان
التراتيل تكرس توحيد الله وعدم السجود للشيطان وآخر ما يقوله المصلي في
شعيرة الرشامة (الوضوء) (أنا فلان بر فلانة صبيت بمصبوتا بهرام ربا بر
روربي، مصبوتي تناطري وتسق لريش، اشما ادهيي واشما اد مندادهيي مدكر إلاي)
ومعناها انا فلان بن فلانة اصطبغت (تعمدت) بصبغة إبراهيم الكبير عمادي
يحرسني وسمو بي إلى العلا، اسم الحي واسم عارف الحياة العليم منطوقٌ علي.
اما القسم الثاني من الصلاة تسمى (البراخا) (التبريكات) وتبدأ بعد الانتهاء
من الوضوء (الرشامة) ويكون المصلي واقفاً متجهاً إلى الشمال وعليه
الانحناء كلما ذكرت كلمة السجود وتبدأ التراتيل (إكاهيي .. إكاماري .. إكا
منداد هيي) ومعناها : الحي موجود ، الرب موجود، عارف الحياة العليم موجود
وتستمر التراتيل إلى أن تنتهي بالسلام على الملائكة والأسلاف الآباء
القدامى ومنهم آدم وشيت ويحيى (يوحنا المعمدان) .. ويبقى معنى ومحتوى
الصلاة واحداً في جميع الديانات وهو السجود لله وحده وعبادته وعدم الشرك به
والالتزام بما أمر واوصى والتقدمات أو التضحيات في المندائية(2)
والتي يقدمها الصايئي للتقرب للحي الأزلي وابتغاء مرضاته هي ان تكون منحة
وعطاء إذ يعطي بعضاً مما رزقه الله للفقراء والضعفاء والمحتاجين وتسمى
(زدقا) صدقة. (إذ تهبون صدقة يا اصفيائي فلا تشهدوا عليها، بئس من وهب صدقة
فأفسدها بالتشهير)(3) ومن التضحيات الأخرى الامتناع التام عن ممارسة
المحرمات والابتعاد عن كل ما يسيء إلى علاقة الفرد بالحي الأزلي ومحاسبة
ألذات باستمرار والالتزام بتأدية الشعائر لاسيما الخاصة بالتطهير وفي
مقدمتها التعميد (الصباغة) والتي هي من أهم الطقوس المندائية التي تعني تطهير الجسد والنفس من النجاسة والخطيئة والآثام وهو طقس تنفرد به ألان الديانة المندائية بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ معجم الصحاح للجوهري 2- ناجيةمراني/ مفاهيم مندائية 3-كنزا ربا/ الوصايا
ان انقرضت الطوائف التي كانت تمارس هذهِ الشعيرة التي تجري في المياه الجارية حيث عمد يحيى
(يوحنا المعمدان) السيد المسيح في مياه نهر الأردن .. وكذلك تأدية شعيرة الصوم (صوما) حيث تؤكد الديانة الصابئة المندائية
على وجود نوعين من الصيام .. الصيام الكبير وهو الابتعاد عن المحرمات وعن
الأذى فقد ورد في الكتاب المقدس (كنزا ربا) (صوموا الصوم الكبير صوم القلب
والعقل والضمير)( 1 أما الصوم الأخر فهو الامتناع عن تناول اللحوم ونحر
الحيوانات مدة ثلاثة وثلاثين يوماً متفرقة على مدار السنة وتشترك جميع
الديانات الموحدة بهذه الشعيرة وهي واضحة في الاسلام.. ان الماء الجاري في
الديانة المندائية ذو أهمية بالغة فمعظم الطقوس التي تقام لابد وأن يكون للماء دور بارز فيها ويسمى بالمندائية
(يردنا) وهو ماء الحياة (مياهيي) وفي النصوص الرافدينية القديمة. العهد
السومري والاكدي والبابلي كان نهر دجلة والفرات من الأنهار المقدسة وكان
كاهن (بارو) يجري التطهير في النهر عند شروق الشمس(2). إن اصول الشعائر المندائية
المتعلقة بالماء ترجع إلى اصول قديمة مارسها سكان جنوب العراق واستمرت
ممارستها حتى عهود متأخرة، والماء الجاري جوهر من جواهر الديانة الصابئية المندائية
فالماء هو الحياة وهو اول عمليات الخلق (بقدرة ملك النور السامي صارت
الحياة وإذ صار (يردنا) الماء الجاري صار الماء الحي الماء المتألق البهيج
ومن المياه الحية نحن الحياة صرنا)(3) .
وأخيرا فان الديانة المندائية
توصي بالمحبة والتراحم وبالسلام والابتعاد عن العنف والحروب واراقة الدماء
وعبر تاريخهم الممتد في الزمن لم نجد لهم سلطة او صوتا سياسيا او كانوا قد
اعدوا انفسهم لحرب او صراع تسفك فيه الدماء وهذا يدخل في صلب عقائدهم
وافكارهم الدينية التي تعتبر هذه الدنيا زائلة وتدعو الى التقشف والابتعاد
عن ملذاتها واهوائها وعلى الناس ان تسوسها وتقودها كلمات الخير والنور
والمحبة التي تجعل من العلاقات بين الناس قائمة على اساسها لان السلطة تمثل
القوة التي تقود الى العنف فقد ذكرنا ما جاء في الكتاب المقدس كنزاربا
التسبيح الثاني/ الوصايا عبارات فيها اشارة للابتعاد عن السلطة وقوتها
واسلحتها (يا اصفيائي … لا تقربوا الملوك والسلاطين والمردة في هذا العالم
ولا تثقوا بهم لا باسلحتهم ولا بحشودهم ، ولا تلووا اعناقكم للذهب والفضة
التي يكنزون انها سبب كل فتنة سيتركونها وراءهم يوم الى النار
يذهبون).______________
1- كنزا ربا/ الوصايا 2-الليدي دراور/الصايئة المندائيون
كتابهم المقدس ( كنزا ربا ) الكنز العظيم لتكون مدخلا لمعرفة هذه الديانة
وإضاءة أسسها التي تستند أليها وجواهرها التي قامت عليها .. (باسم الحي
العظيم .. مسبّحٌ ربي بقلبٍ نقي .. هو الحي العظيم.. البصير القدير العليم
العزيز الحكيم.. الأزلي القديم.. هو العظيم الذي لا يرى ولا يحد لأشريك له
في سلطانه ولا صاحب له في صولجانه.. هو الملك منذ الأزل لا أب له ولا ولد
ولا يشاركه ملكه احد.. موجود منذ الأزل .. باق ٍ إلى الأبد(1) ( قل يا
عبادي لا تزنوا ولا تسرقوا ولا تنتهكوا حرمات الناس.. لا تكنزوا الذهب
والفضة فالدنيا باطلة ومقتنياتها زائلة.. لا تسجدوا للشيطان ولا تعبدوا
الأصنام والاوثان.. صوموا الصوم الكبير.. صوم القلب والعقل والضمير.. يا
أصفيائي لا تقربوا الملوك والسلاطين والمردة في هذا العالم ولا تثقوا بهم
.لا بأسلحتهم ولا بحشودهم ول تلووا أعناقكم للذهب والفضة التي يكنزون أنها
سبب كل فتنة سيتركونها وراءهم يوم إلى النار يذهبون .. لا تأكلوا الدم ،ولا
الميت، ولا المشوه، ولا الحامل ولا المرضعة ولا التي أجهضت ولا الجارح ولا
الكاسر ولا الذي هاجمه حيوان مفترس وإذا ذبحتم فاذبحوا بسكين من حديد..
إذا اتخذتم لأنفسكم أزواجا فاختاروا من بينكم وأحبوهن وليحفظ أحدكم الأخر.
هبوا الخبز والماء والمأوى لبني البشر المتعبين المضطهدين .. إياكم
والهُزءَ بمعوق أو السخرية من ذي عاهة . أن الأجساد قد تبتلى بالأوجاع ولكن
نشماثا ( الأنفس) لا تهان ولا تزدرى ألا بإعمالها. أن عكازتكم يوم الحساب
أعمالكم التي عليها تتوكأون فانظروا إلى ماذا تستندون)(2) يعتبر الدين
الصابئي المنداني من أقدم الديانات الموحدة بل هو أقدمها على الإطلاق لان
جذوره تمتد بعيدا في حضارة وادي الرافدين القديمة منذ العهد السومري ومن
بعده الاكدي والبابلي وقد أثارت هذه الديانة حولها كثيرا من الخلافات في
وجهات النظر والآراء المتعددة وان قراءة دقيقة متأملة لما ورد فيها من
عقائد وشعائر ومثولوجيا ستضعنا أمام تلك الحقيقة حقيقة قدم هذه الديانة
وتأثيرها في الوسط الذي نمت وعاشت فيه وتأثرها به في الوقت نفسه لقد أكد
معظم الباحثين والمؤرخين العرب المسلمين القدامى على قدم الديانة الصابئية المندائية
بعد أن ورد ذكرهم في القران الكريم باعتبار ديانتهم ديانة موحدة قائمة
بذاتها حالها حال الديانات الكتابية التي ذكرت فيه في ثلاث سور مباركة هي
سورة البقرة ، وسورة المائدة، وسورة الحج .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنزا ربا/ اليمين/ الكتاب الأول التسبيح الأول/ التوحيد
(2) كنزا ربا / اليمين / الوصايا
(
أن الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم
الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1)
فالقران الكريم إذ يذكرهم مع اليهود والنصارى أنما يعتبرهم موحدين مؤمنين بالله واليوم الأخر.
وقد
اختلف الرأي فيهم فالبعض اعتبرهم وثنيين عبدة كواكب والبعض الأخر عدهم من
أهل الكتاب كما ورد في القران الكريم .. فقد ذكر ابن النديم في كتابه
الفهرست من مذاهب الحرانية الكلدانيين المعروفين بالصابة .فأورد حكايتين
مطولتين الأولى مكتوبة بخط احمد ابن الطيب تلميذ الكندي ، والكندي كما يقول
ابن النديم من عظماء الفلاسفة وأفذاذ المفكرين كان يعرف السريانية
واليونانية والهندية والفارسية لذا فان ما ورد في حكايته يطابق ما نجده في
الكتابات المندائية ولا سيما فيما يخص الأيمان بالله واليوم الأخر.
قال
ابن النديم ( حكاية من خط احمد بن الطيب في أمرهم حكاها عن الكندي: اجتماع
القوم على إن للعالم علة ولم يزل. واحد لا يتكاثر لا يلحقه صفة شيء من
المعلولات كلف أهل التمييز من خلقه الإقرار بروبيته وأوضح لهم السبيل وبعث
رسلا للدلالة وتثبيتا للحجة أمرهم أن يدعوا إلى رضوانه ويحذروا غضبه ووعدوا
من أطاع نعيما لا يزول ووعدوا من عصى عذابا واقتصاصا بقدر استحقاقه)
وتستمر الحكاية( بان دعوة هؤلاء القوم كلهم واحدة وسنتهم وشرائعهم غير
مختلفة وان قبلتهم واحدة فقد صيروها لقطب الشمال وقصدوا بذلك البحث عن
الحكمة وان المفترض عليهم من الصلاة في كل يوم ثلاث ولا صلاة عندهم الأعلى
طهور والمفترض من الصيام ثلاثون يوما وعليهم الغسل من الجنابة وتغيير
الثياب ومن مس الطامث ويتركون الاختتان ولا يحدثون على فعل الطبيعة حدثا
ويتزوجون بشهود وفريضة الذكر والأنثى سواء ولا طلاق إلا بحجة بينة عن فاحشة
ظاهرة ) وتستمر الحكاية ( بان الثواب والعقاب عندهم إنما يلحق الأرواح
ويقولون النبي هو البريء من المذمومات في النفس والآفات في الجسم والكامل
في كل محمود ويكون مذهبه ما يصلح به العالم.وقولهم في النفس أنها دراكة لا
تبيد وأنها جوهر وليس بجسم ولا يلحقها لواحق الجسم ) ( وقال الكندي انه نظر
في كتاب يقر به هولاء القوم وهو مقالات في التوحيد على غاية من التقانة في
التوحيد لا يجد الفيلسوف إذا اتعب نفسه مندوحة عنها والقول بها )( 2 ) ان
حكاية الكندي هذه توضح ان صابئة حران هم قوم موحدون وهم كصائبة جنوب العراق
المندائيين يؤمنون بالله وباليوم الأخر. وتتفق مع مضمون الآيات القرآنية
وهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى أن صائبة حران هم أخوة في الدين مع صابئة
البطائح في جنوب العراق بالرغم من وجود أقوام انتحلت هذه التسمية في حران.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة – أية 62
(2) ابن النديم الفهرست ( 442 – 445 ) ينظر كتاب مفاهيم مندائية / ناجية مراني
ثم
يذكر ابن النديم الحكاية الثانية التي ترجع إلى زمن المأمون وهي منقولة عن
أيشع ألقطيعي النصراني أراد بها الإساءة إلى صابئة حران وعموم الصابئة فلفق الكثير من الأفكار ودس العديد من التهم التي لاتمت إلى الصابئة بصلة وذالك بدافع الحقد والضغينة حيث كان البلاط العباسي يزخر بالعلماء والأطباء والفلكيين والمترجمين والأدباء من الصابئة المندانيين . وقد أشار العالم العربي المعروف البيروني في كتابة ( الآثار الباقية عن القرون الخالية ) ما ذكره بعضهم عن الصابئة
يقول ( حكى عنهم ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقص نحلتهم
فحشاه بالكذب والأباطيل، ونحن لا نعرف عنهم إلا أنهم أناس يوحدون الله
وينزهونه ) (1)
كما تحدث الشهرستاني في كتابه ( الملل والنحل)(2) عن الصابئة لا سيما عن الجانب المتعلق بالمعرفة أو العلم الإلهي ويشير إلى ان الصابئة
يوحدون الله تعالى وتشتمل عقائدهم على تلقي المعرفة العليا الإلهية بواسطة
الروحانيات . ويجري بينهم وبين الأحناف مناظرة كانت تدور حول الروحانيات
التي يتعصب لها الصابئة
ويتعصب الأحناف للماديات ويقول عن فعل الروحانيات والملائكة يستمدون القوة
من الحضرة القدسية ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ثم يذكر ان
الصابئيين كلهم يصلون ثلاث صلوات ويغتسلون من الجنابة ومن مس الميت وحرموا
أكل الجزور والخنزير ومن الطير كل ماله مخلب وأمروا بالتزويج بوليٍّ أو
شهود ولا يجوز الطلاق إلا بحكم حاكم كما أورد ابن النديم أمورا مهمة عن الصابئة منها ( يوم دخل العرب المسلمون العراق قام أنش دنقا رئيس كهنة الصابئة آنذاك لمقابلة قائد المسلمين يحمل معه الكتاب المقدس للصابئة ليبين له ان قومه من أهل الكتاب وقد اقره على ذلك.
وقال ابن النديم عن احمد بن عبد الله بن سلام مولى هارون الرشيد( ترجمت هذا الكتاب ويقصد
به
( الكتاب المقدس ) من كتب الحنفاء وهم الصابيون الإبراهيمية الذين امنوا
بإبراهيم عليه السلام وحملوا عنه الصحف التي انزلها الله عليه وهو كتاب
فيه، ألا أني اختصرت منه ما لا بد منه ) وقال المترجم احمد بن سلام ( ترجمت
هذا الكتاب والصحف والتوراة والإنجيل وكتب الأنبياء والتلامذة من
العبرانية والصابية وهي لغة أهل الكتاب إلى اللغة العربية)(3). كما ذكر ابن
أبي اصيبعة ان المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي مصنف كتاب ( شرح مذهب
الصابئي ) ترجم كتاباً إلى العربية بعنوان السور والصلوات التي يصلي بها
الصابئون )(4) لقد اتسمت كتابات ابن النديم في كتابه( الفهرست) والشهرستاني
في كتابه(الملل والنحل) بشيء من الموضوعية حيث أنهما ذكرا الآراء المختلفة
التي كانا يعرفانها في تلك الفترة وقد أكد كلاهما أن الصابئة يؤمنون بالله وباليوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. البيروني/ الآثار الباقية عن القرون الخالية
2. الشهرستاني/ الملل والنحل
3. ابن النديم/ الفهرست
4. ابن أبي اصعيبه /عيون الإنباء في طبقات الأطباء(2ص 199)
الأخر
ولديهم طقوس يقيمونها، كما إن لديهم أحكاما وفرائض يلتزمون بها كالصلاة
والصوم والزكاة وتحريم السكر كما أنهم يحرمون لحم الخنزيروالاختتان. ولهم
أحكام في الزواج والطلاق ومع هذا فقد شاب الكثير من أرائهم الخلط والضعف
شانهم في ذلك شأن العديد من الكتاب والباحثين التراثيين حيث جاءت اغلب
كتاباتهم تنقصها الدقة والتمحيص. وعن الذين تحدث عنهم أبو حنيفة ( أنهم
ليسوا بعيدة أوثان وانهم يعظمون النجوم كتعظيم المسلمين الكعبة ويؤمنون
بدين نبوي ويقرون بكتاب ) (1) ويقول عنهم الشيخ محمد جواد مغنية (2) أنهم
أقدم الأديان ( يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء )، كما ذكرهم العلامة
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في كتابه حسن المحاضرة (3)( إن النبي إدريس
عليه السلام دعا الخلق الى الله تعالى فأجابوه وكانت عقيدته الصابئية وهي
توحيد الله تعالى والطهارة.) كما يؤكد معظم الباحثين المحدثين على ان الصابئة
المندائيين موحدون يؤمنون بالروحانيات. يقول العقاد في كتابه ( أبو
الأنبياء) (4): ان دين الصابئين كما هو مدون في كتبهم الدينية يتلخص في
أنهم يؤمنون بالله واليوم الأخر ويؤمنون بالحساب والعقاب وان الأبرار منهم
يذهبون بعد الموت إلى عالم لنور وان المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام ولا
يفرض الصوم عليهم بمعناه المعروف وهو الامتناع عن الطعام والشراب إنما
يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لهم خمسة أسابيع متفرقة أيامها على طول
السنة وهم ينزهون الله غاية التنزيه ويعتقدون ان مقر الملائكة(ملكي) هو في
الكواكب نفسها لذلك فهم إنما يعظمون هؤلاء الملائكة لا الكواكب نفسها وليست
لديهم هياكل أو أصنام ولابد عندهم في عقيدتهم من مخلوق متوسط بين
الروحانية والمادية يهدي الناس إلى الحق فالروحانيات لديهم مخلوقة من كلام
الله عزّ وعلا دعاها بأسمائها فوجدت وان كلام الله إلى الناس لا يصل ألا
بواسطة مخلوق بين النور والتراب) .ويقول كذلك ( ولا يعرف دين من الأديان
تخلو عقيدة الصابئة
من مشابهة له في أحدى الشعائر …. والمحقق من أمرهم أنهم يرجعون إلى اصل
قديم لان استقلالهم باللغة الدينية والكتابة الأبجدية لم ينشا في عصر
حديث). ومن الدراسات الحديثة التي تناولت المندائية وفق منهج اركيلوجي تاريخي علمي مقارن هي دراسة الدكتور خزعل ألماجدي في كتابه( جذور الديانة المندائية) (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.ينظر كتاب ناجية مراني/ مفاهيم صابئية مندائية ، ناجيه مراني2
2. التفسير الكاشف- محمد جواد مغنية-بيروت -2ص117
3.جلال الدين السيوطي- حسن المحاضرة
4.العقاد- أبو الأنبياء- 108
5.خز عل ألماجدي- جذور الديانة المندائية
إذ
استطاعت هذه الدراسة ان ترجع أصول هذه الديانة وجذورها الى الديانة
السومرية التي هي اصل الديانات التاريخية في العالم كله على حد قوله فهو
يرى( ان اصول الصابئية القديمة تكمن في الديانة السومرية ولكن نشأتها تبدأ
من النمو تحت شبكة العقائد الاكدية والبابلية الجديدة) ويقول ( وبعبارة
واحدة يمكننا القول ان الدين الصابئي المندائي هو ما تبقى او بقايا الدين
السومري وهذا وحده هو الذي يفسر قول المندائيين عن دينهم بانه اقدم الأديان
على وجه الأرض ) ومن خلال هذا المنظور فان الباحث يتقاطع مع كل الآراء
التي ترجع أصول الديانة الصابئية المندائية الى اصول الديانات البابلية او الى أصول يهودية او يونانية او فارسية او مسيحية . والصابئة
المندائيون يعتقدون أنهم غرس التوحيد الأول وان ديانتهم هي الأقدم منذ أدم
وشيت وسام ويحيى (عليهم السلام) ولابد لنا من الإشارة الى الدور الكبير
الذي اضطلع به المستشرقون المهتمون بالديانة المندائية والذين اطلعوا على أهم كتبها المدونة باللغة المندائية
الارامية وتقصوا ما فيها من طقوس وعقائد واساطير وقد تمت ترجمتها الى
اللغة الأنكليزية والألمانية لاسيما الكتاب المقدس (كنزا ربا) ونخص بالذكر
من هؤلاء المتشرقين ليدزبارسكي الذي قام بترجمة أهم الكتب المندائية
الى الألمانية ومنها كتاب كنزا ربا (الكنز العظيم) وكتاب (دراشة إدبهيا)
مواعظ وتعاليم يحيى بن زكريا (عليه السلام) في عامي 1925 و 1905 وكذلك
الليدي دراور التي عاشت في العراق ما يقرب من ربع قرن وأنصرفت الى دراسة المندائية
فأتقنت لغتها كما أتقنت السريانية والعربية فنشرت كتابها الأول
(المندائيون في العراق وايران) عام 1937 كما وضعت بالتعاون مع رودولف قاموس
اللغة المندائية
عام 1963 أما عن وجود الصائبة المندائيين فقد مال أغلب الباحثين المتشرقين
المهتمين بهذه الديانة الى النظرية الغربية التي ترى انهم كانوا في فلسطين
وحوض نهر الأردن ضمن طوائف البحر الميت تستند في ذلك الى ظهور شخصية يوحنا
المعمدان، يحيى بن زكريا (ع) هنالك حيث كان يعمد الناس في نهر الأردن وقد
عمد ابن خالته السيد المسيح، ولكن تحت ضغط المؤسسة الدينية اليهودية التي
مارست العنف والاضطهاد ضد المندائيين بأعتبارهم معارضين بل مناوئين لسلطتهم
السياسية ولآرائهم ومعتقداتهم وتحريض الناس ضدهم هاجر عدد كبير منهم الى
حران ومنها الى جنوب العراق وقد ذكر هذه الهجرة كتاب (حران كويتا) حران
السفلى وهو من الكتب المندائية
التي تحدثت تاريخياً عن جزء من تاريخ المندائيين الضائع حيث لم يكن
المندائيون مهتمين بتدوين تاريخهم، اما النظرية الثانية فهي النظرية
الشرقية التي ترى ان الوجود الأول لهم كان في جنوب العراق حيث وفرة المياه
وملاءمة المناخ ووجود عناصر مشتركة بين العقائد والطقوس والمثلوجيا المندائية
وبين ديانات وادي الرافدين القديمة اذ كان للماء والنور دور واضح فيها (من
يردنا العظيم الماء الجاري أنبثقت النطفة الأولى)( ) (صار الماء الحي
الماء المتألق ومن المياه الحية نحن الحياة صرنا)( ) (لا حد للنور لا يوجد
حد للنور ولا يدرى متى صار، ما صار الا بوجود الحي العظيم)( ). ورد هذا في
الكتاب المقدس للصائبة المندائيين (كنزا ربا) ونحن نميل أنهم ظهروا في جنوب
العراق للأسباب التي ذكرت.ولوجود ذكر لنهري دجلة والفرات والفرات في المندائية يسمى (فراش زيوا) فرات الضوء وان المثلوجيا المندائية
في بعض صيغها وابنيتها تكاد تكون مشابهة للمثلوجيا الرافدينية القديمة ..
بعد هذا من اين جاءت تسمية الصابئه المندائيين .. ما إن جاء ذكر الصابئين
في القرآن الكريم حتى كان حافزاً لتناول هؤلاء القوم بالبحث والدراسة من
لدن كتاب التراث العربي فقهاء ومؤرخين ولغويين.
فيرى معظم اللغويين أن
مفردة صابئي من الجذر صبأ وقالوا : صبأ خرج من دين الى اّخر .. لذا فقد
اطلقت قريش على الرسول (ص) كلمة صابئي وكذلك على الذين آمنوا برسالته .. اي
أنهم تركوا دين إبائهم وهو على الوثنية وجاءوا بدين جديد غيره ونعتوا عمر
وابا ذر الغفاري والصحابه كونهم صابئين. وحين أسلم الشاعر الجاهلي لبيد (4)
وهو صاحب احدى المعلقات قالوا عنه جاء بدين الصابئين.. ولأن التعاليم التي
جاء بها الإسلام من توحيد وآخرة وثواب وعقاب وجنه ونار مشابهه لمعتقدات الصابئة
المندائيين في كثير من جوانبها.لذا فأن قريش لم تنعت المسلمين الاوائل
باليهودية أو النصرانية أو المجوسية وانما نعتهم بالصابئين (5) وهذا ما
يجعلنا على يقين ان الصابئين كان لهم وجود وتأثير وان ديانتهم كانت معروفة
على نطاق واسع.
اما الجذر الحقيقي لكلمة صابئي فهو من (صبا) الآرامية التي تعني تعمد او ارتمس في الماء للتطهير وهي من الشعائر المندائية
التي تمارس حتى يومنا ، ويطلق المندائيون على هذه الشعيرة (الصباغة)(6) من
الفعل صبغ الذي يقترب من معنى الفعل (صبا) الآرامي وصبغ يعني غمس او تغيرّ
وتشير كذلك الى معنى ديني هو التطهر .. ويذكر البيروني في حديثه عن الصوم
كلمة صبغ بمعنى تعمد فيقول (ويوم المعمودية الذي صبغ فيه يحيى المسيح وغمسه
في ماء المعمودية بنهر الاردن عند بلوغه الثلاثين) .. وكلمتا الصابئي
المندائي تسميتان لمعنى واحد فكلمة مندائي مشتقة من كلمة (مندا) الاراميه
والتي تعني المعرفة أو العلم وبهذا يكون الصابئي المندائي : المتعمد بالماء
صاحب العلم والمعرفة لهذا فالديانة المندائية
ديانة عرفانية غنوصية. وكلمة غنوص كلمه يونانية (gnosis ) ومعناها المعرفه
وتستخدم بمعنى العلم والحكمة .. والغنوصيه مذهب شاع في القرن الثاني
الميلادي رغم ان جذوره تمتد بعيداً قبل الميلاد ومنذ وجود وانتشار الديانة
السومرية مرورا بالديانات والمذاهب الوثنية والموحدة وبالعصر الهلينستي .. (
إن المندائية
هي الغنوصية وهي العرفانية بأدق واكمل اشكالها ) كما يقول الدكتور خزعل
الماجدي (1) . وهي بذلك تؤسس طريقة لادراك المعرفة العليا وكنه الاسرار
الربانية. وهذا ما يقابله ( الكشف ) عند الصوفية لذا فأن رجال الدين
المندائيين لايقرون علنية الدين لأن ذلك يتعارض وباطنيته.. ويقول الباحث
محمد عبد الحميد الحمد في كتابه ( صابئة حران والتوحيد الدرزي) (2) (اثر الصابئة
في النزعات الصوفية ومذاهب التوحيد ومنهم ( الدروز ) الذين هم قوم آمنوا
بالله وباليوم الاخر ولهم جذور عريقة في الفكروالتاريخ يقول ايضاً (الصابئة
ديانة عرفانية سرية كان مقرها حرّان في شمال سوريا وهم اتباع ابراهيم
الخليل (ع) ويدعون ( الحنوفون ) ويقصد بهم الأحناف .. وقد برز نشاط الافكار
الغنوصية في القرن الاول الميلادي واتسع في القرنين الثاني والثالث وفق
انظمة فكرية متعددة بتعدد الفرق والطوائف التي ضمتها خيمة الغنوصية .. (ولم
يبق من فرقها اليوم سوى المندائية
)(3 وقد عارض دعاة المسيحية الاوئل لاسيما في القرن الاول الميلادي
الدعوات الغنوصية مما ادى الى الاصطدام بها ومحاربتها واعتبار كل دعوة خارج
حدود الأناجيل الأربعة هرطقة لايجوز التعامل معها ورفض اية فكرة تمس
الأيمان وتضع العقل في منزلة اعلى من منزلة الأيمان .. والغنوصية تقوم على
اساس تحرير النفس البشرية التي هي نسمة ( نشمثا ) او قبس من الله من الجسد
الذي هو بمثابة سجن والتحاقها بالعالم العلوي الذي هبطت منه وهذا يذكرنا
بقصيدة الفيلسوف ابن سينا التي مطلعها : هبطت اليك من المحلِ الارفع ورقاءُ
ذاتُ تعزز ٍ وتمنع ِ
ويقصد بذلك هبوط النفس الى جسد الإنسان وهذا دليل
على انتشار أفكار وعقائد الغنوصية ويقول احد دعاة الغنوصية ( فالنتينوس)
(ان من يملك قلباً طاهراً . لم تدنسه الخطيئة ويشع بالنور . فأنه يبارك
برؤية الله ) لقد لاحظنا ان اغلب الذين تناولوا الدين الصابئي المندائي
اشاروا الى حقيقتين اولهما قدم هذا الدين كونه سابقاً على جميع الديانات
الموحدة وثانيهما انه دين توحيدي يؤمن بالله وباليوم الأخر وبالعقاب
والثواب وبالجنة والنار وهي اهم الثوابت المشتركة بينه وبين الديانات
الأخرى فبالنسبة للتوحيد يؤمن الصابئة المندائيون بوجود اله واحد خالق الكون. .. والحياة والكائنات الروحية النورانية والكائنات المادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خزعل الماجدي – مجلة الطيف المندائي العدد الثاني
2- محمد عبد الحميد/ صابئة حرن والتوحيد الدرزي
3- عزيز سباهي- اصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية
(هو
العظيم الذي لا يرى ولا يحد هو الملك منذ الأزل، لا أبَ له ولا ولد ولا
يشاركه ملكه أحد)(1 وبهذا التوحيد لله وتنزيهه يلتقي الدين المندائي
بالديانات الموحدة الأخرى لاسيما مع الدين الإسلامي فالتسبيح الأول من كتاب
كنزا ربا (الكنز العظيم) الخاص بالتوحيد يقترب كثيراً مما ورد في القرآن
الكريم لاسيما الأسماء الحسنى. والملاحظ ان اغلب نصوص الكتاب المقدس كنزا
ربا لابد من الإشارة فيها الى الله الذي يطلق عليه الحي العظيم، الحي
الأزلي (هيي قدمابي)، ملك النور السامي (ملكا اد نهورا) الله الذي انبثق من
ذاته (الها اد من نافشي افراش) وبأرادبه كان كل شيء (الكون والخليقة
والحياة والإنسان) والعبارات الثلاث التي تتكرر في أكثر من نص من نصوص
الكتب المندائية
(‘اكاهيي، ‘اكاماري، إكامندا دهيي) معناها (الحي موجود، المولى موجود،
عارف الحياة العليم موجود) تمثل قمة التوحيد وهذه العبارات الثلاث بتداولها
المندائيون باستمرار. ويذكر اسم الحي الأزلي في جميع الطقوس المندائية
بل هو فاتحة كل نص أو شعيرة، والصفات التي تطلق عليه إنما تطلق مجازاً فهو
فوق كل صفة أو نعت. ويؤمن الصابئه المندائيون باليوم الأخر وبالثواب
وبعودة النفس الى بارئها بعد الموت إذ تؤكد معظم النصوص الدينية خاصة في
الكتاب المقدس وفي كتاب مواعظ وتعاليم يحى (ع) (دراشة اديهيا) على ان النفس
(نشمثا) بعد الموت تعرج إلى السماء وصولا إلى عالم الأنوار ( الجنة) (
الما دنهورا) متحررة من سجن الجسد المجبول من التراب والطين لتلتحق بعالمها
الذي جاءت منه فهي أسيرة وفي الموت خلاصها وتحررها لترجع إلى مكانها
السامي الذي هبطت منه وبهذا فالموت في الديانة الصابئه المندائية
تحرر وانعتاق وعودة إلى عالم الأنوار والخلود الأبدي. ولابد لنا ان نذكر
ما جاء في القرآن الكريم (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربكِ راضية
مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي) والنفس بعد الموت في المندائية
تظل ثلاثة أيام تتردد بين القبر والبيت بعدها تبدأ رحلتها نحو السماء لتصل
إلى محطات الحساب والتطهير (مطراثي) فيسألها الملائكة الموكلون عن أعمالها
فتقف في مطهر الملاك أباثر موزانيا ملاك الميزان لمعرفة درجة نقائها
وطهرها مقارنة بنقاء نفس شيت (شيتل) بن آدم فأن ماثلتها فأنها تمر بسلام
عبر المطاهر الأخرى حتى تصل إلى عالم الأنوار وأن كانت مثقلة بالذنوب
والسيئات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كنزا ربا – اليمين / التسبيح الأول- التوحيد
فستعاني كثيراً حتى تتطهر لتصل إلى العالم المنشود وفي الديانة المندائية
مصطلحان النفس والروح. النفس تمثل النقاء والطهر والخير والخلود لأنها
نفحة أو نسمة من الله وهي في صراع مع الروح داخل الجسد التي تمثل الغرائز
والنزوات المادية للجسد وتحاول النفس ان تحد من نشاطها وهذه مهمتها فأن
فشلت او عجزت فستحاسب كما رأينا. وهنالك نصوص عديدة في كتاب كنزا ربا
تتناول صعودها وعروجها ومرورها بالمطاهر. وهذه مقتطفات منها :
(صرخة،
صرختان، صرختان اثنتان، انهما معاً جالستان، تبكيان وتتعلمان .. الروح
ونشمثا (النفس) .. الروحُ تقولُ لنشمثا: بحياتكِ يا أختاه .. بحياة كلَّ
تلك السنين .. خذيني معكِ حين تنطلقين – كيف آخذكِ معي الى من ادق بابه،
وانتِ روح كذّابة ؟ إنكِ يا أختاه تكذبين .. انتِ لا ترين وتكذبين وصاحبُ
الميزان، الذي لا يحابي انسان .. والذي يزن الأعمال ويرفعها الى الديان كيف
اوصلك اليه ؟ وكيف ادخلك عليه ؟ إنه يصعد الكامل لكماله .. ويمسك بالناقص
لسوء أعماله .. فكيف اخرج بكِ من اقفاله ؟)(1
(باسم الحيّ العظيم .. يا
عصافير القفار الجالسة فوق قناديلها . ماذا من القفار تأكلين ؟ .. وماذا
من القناديل تشربين ؟ وبماذا في طريقك تتزودين ؟ يا عصافير القفار .. لا
الفضةُ ولا النضار، زاد في الطريق يكونان .. ولا المال ولا المرجان ..
الصدقة والأحسان وثبات قلبك في الأيمان .. ذاك هو زادك في طريقك الى
الديان)(2).
(بأسم الحيّ العظيم .. أسمع صوت نفس ما، وهي تخرج من جسد
الحرمان .. من داخل هذا العالم خرجت . اسمعها تقول: عارية اتيت الى هذا
العالم فارغة منه اخرجوني .. مثل عصفور لم يرافقه شيء .. ثم التفتتْ الى
الهيكل الذي منه خرجت : ماذ افعل بك يا جسدي ؟ الباقي في هذا العالم ماذا
افعل بك ؟ يا جمال جسدي الذي سيأكلك في القبر الدود .. ماذا أفعل بك ؟ يا
قميص الورد ماذا افعل بك . لو كنت ثوب ضياء ونور للبستك يا جسدي ولصعدت معي
الى بيت هيي (الحي) .. لو كنت اكليل ضياء ونور لضفرتك على رأسي ولصعدت معي
الى بيت هيي .. ماذا افعل بك يا جسدي وانت من طين جبلت
؟)(3)._______________________
1- كنزا ربا اليسار – التسبيح الخامس
والعشرون 2- كنزا ربا اليسار / التسبيح الخمس والثلاثون 3 - كنزا ربا
اليسار – التسبيح الثامن والثلاثون
فالجسد في الديانة المندائية،
زائل وهو من عالم النقص والعوز .. العالم السفلي : العالم الزائل، عالم
الظلام، والنفس من عالم النور، العالم العلوي، عالم الخلود الذي انفصلت منه
واليه تعود .. وتشترك جميع الديانات الموحدة ان الله خلق آدم من طين
وتراب، والديانات الرافدينية القديمة يشير كثير من نصوصها ان الآلهة خلقت
الإنسان من الطين كذلك .. ففي كنزا ربا تتوفر تفصيلات كثيرة في عملية خلق
آدم وتؤكد ان الحي الأزلي أمر الملائكة بخلقه فجبل من التراب والطين ..
(ومن التراب والطين الأحمر والدم والمرارة ومن سرّ الكون جبل آدم وحواء
زوجة وحلّت فيهما نشمثا (نفس) بقدرة ملك النور)(1). وفي القرآن الكريم يتم
خلق آدم من الطين .. (إذ قال ربُك للملائكة أني خالق بشراً من طين فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)(2) (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال
من حمأ مسنون)(3).
(إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون)( ) وجاء في العهد القديم (ثم جبل الرب الإله آدم من تراب الأرض ونفخ
في أنفه نسمة حياةٍ فصار ادم نفسْاً حية)( ) .. كما تشترك جميع الديانات
الموحدة ومنها الديانة المندائية بوجود الملائكة وهي كائنات غير مرئية تسمى في المندائية
(ملكي) وترافقها كلمة (أثري) وتعني كائنات نورية وتسمى ملائكة النور
وملائكة الضوء وقد خلقها الله وأوكل لها مهمات عديدة منها حراسة الحياة
والناس والمراقبة والمحاسبة وتنفيذ أرادته السامية. كما ان بعضهم قام
بعمليات خلق بأمر منه. وكثير من النصوص المندائية تحفل بعدد كبير منهم وبأسمائهم وبهذا تشترك المندائية
مع أخواتها الديانات الموحدة بالأيمان بوجود الملائكة ونلاحظ ذلك أيضاً في
القرآن الكريم وفي العهد القديم وفي الأناجيل .. ان الشعائر والطقوس في
جميع الديانات الموحدة وحتى في الديانات القديمة الوثنية تعتبر الجانب
العملي والتطبيقي للعقائد والأفكار التي تمثل الجانب النظري تشترك بصلات
عديدة في الشكل والمحتوى وان اختلفت في بعض التفصيلات ففي جميعها صلاة وصوم
وزكاة وشعائر تقام للزواج والوفاة وطقوس للتطهر من الخطيئة وتقدميات أو
تضحيات. فالصلاة في الديانة المندائية تعد من الشعائر المهمة وهي تقترب في مظهرها ومحتواها من الصلاة في الإسلام ففي المندائية تبدأ الصلاة بالرشامة (الوضوء) والرشامة
مصدر
من رشم في العربية تقول رشمت الطعام ارشمه إذا ختمته(1) وتعني أيضاً
الاغتسال بالماء والرشامة هي رسم المندائيين وختمهم .. يقول المصلي أثناء
الرشامة وهو واقف عند الماء (روشما الاوي لا هوا بنورا ولا هوا بمشّا ولا
هوا ادمشيها، رشماي بيردنا (الماء الجاري) ادميا هيي) ومعناها : ليس رسمي
بالنار (يقصد المجوس) وليس بالزيت (يقصد اليهود وليس بالمسح (يقصد
المسيحيين) رسمي هو الماء الجاري، ماء الحياة .. ثم يبدأ برسم جبهته بالماء
(غسلها) من اليمين الى اليسار، ويغسل الأذنين والأنف والفم وغسل الركبتين
والرجلين وتذكر التراتيل مع كل جزء من الجسم الذي تم رسمه بالماء وان
التراتيل تكرس توحيد الله وعدم السجود للشيطان وآخر ما يقوله المصلي في
شعيرة الرشامة (الوضوء) (أنا فلان بر فلانة صبيت بمصبوتا بهرام ربا بر
روربي، مصبوتي تناطري وتسق لريش، اشما ادهيي واشما اد مندادهيي مدكر إلاي)
ومعناها انا فلان بن فلانة اصطبغت (تعمدت) بصبغة إبراهيم الكبير عمادي
يحرسني وسمو بي إلى العلا، اسم الحي واسم عارف الحياة العليم منطوقٌ علي.
اما القسم الثاني من الصلاة تسمى (البراخا) (التبريكات) وتبدأ بعد الانتهاء
من الوضوء (الرشامة) ويكون المصلي واقفاً متجهاً إلى الشمال وعليه
الانحناء كلما ذكرت كلمة السجود وتبدأ التراتيل (إكاهيي .. إكاماري .. إكا
منداد هيي) ومعناها : الحي موجود ، الرب موجود، عارف الحياة العليم موجود
وتستمر التراتيل إلى أن تنتهي بالسلام على الملائكة والأسلاف الآباء
القدامى ومنهم آدم وشيت ويحيى (يوحنا المعمدان) .. ويبقى معنى ومحتوى
الصلاة واحداً في جميع الديانات وهو السجود لله وحده وعبادته وعدم الشرك به
والالتزام بما أمر واوصى والتقدمات أو التضحيات في المندائية(2)
والتي يقدمها الصايئي للتقرب للحي الأزلي وابتغاء مرضاته هي ان تكون منحة
وعطاء إذ يعطي بعضاً مما رزقه الله للفقراء والضعفاء والمحتاجين وتسمى
(زدقا) صدقة. (إذ تهبون صدقة يا اصفيائي فلا تشهدوا عليها، بئس من وهب صدقة
فأفسدها بالتشهير)(3) ومن التضحيات الأخرى الامتناع التام عن ممارسة
المحرمات والابتعاد عن كل ما يسيء إلى علاقة الفرد بالحي الأزلي ومحاسبة
ألذات باستمرار والالتزام بتأدية الشعائر لاسيما الخاصة بالتطهير وفي
مقدمتها التعميد (الصباغة) والتي هي من أهم الطقوس المندائية التي تعني تطهير الجسد والنفس من النجاسة والخطيئة والآثام وهو طقس تنفرد به ألان الديانة المندائية بعد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ معجم الصحاح للجوهري 2- ناجيةمراني/ مفاهيم مندائية 3-كنزا ربا/ الوصايا
ان انقرضت الطوائف التي كانت تمارس هذهِ الشعيرة التي تجري في المياه الجارية حيث عمد يحيى
(يوحنا المعمدان) السيد المسيح في مياه نهر الأردن .. وكذلك تأدية شعيرة الصوم (صوما) حيث تؤكد الديانة الصابئة المندائية
على وجود نوعين من الصيام .. الصيام الكبير وهو الابتعاد عن المحرمات وعن
الأذى فقد ورد في الكتاب المقدس (كنزا ربا) (صوموا الصوم الكبير صوم القلب
والعقل والضمير)( 1 أما الصوم الأخر فهو الامتناع عن تناول اللحوم ونحر
الحيوانات مدة ثلاثة وثلاثين يوماً متفرقة على مدار السنة وتشترك جميع
الديانات الموحدة بهذه الشعيرة وهي واضحة في الاسلام.. ان الماء الجاري في
الديانة المندائية ذو أهمية بالغة فمعظم الطقوس التي تقام لابد وأن يكون للماء دور بارز فيها ويسمى بالمندائية
(يردنا) وهو ماء الحياة (مياهيي) وفي النصوص الرافدينية القديمة. العهد
السومري والاكدي والبابلي كان نهر دجلة والفرات من الأنهار المقدسة وكان
كاهن (بارو) يجري التطهير في النهر عند شروق الشمس(2). إن اصول الشعائر المندائية
المتعلقة بالماء ترجع إلى اصول قديمة مارسها سكان جنوب العراق واستمرت
ممارستها حتى عهود متأخرة، والماء الجاري جوهر من جواهر الديانة الصابئية المندائية
فالماء هو الحياة وهو اول عمليات الخلق (بقدرة ملك النور السامي صارت
الحياة وإذ صار (يردنا) الماء الجاري صار الماء الحي الماء المتألق البهيج
ومن المياه الحية نحن الحياة صرنا)(3) .
وأخيرا فان الديانة المندائية
توصي بالمحبة والتراحم وبالسلام والابتعاد عن العنف والحروب واراقة الدماء
وعبر تاريخهم الممتد في الزمن لم نجد لهم سلطة او صوتا سياسيا او كانوا قد
اعدوا انفسهم لحرب او صراع تسفك فيه الدماء وهذا يدخل في صلب عقائدهم
وافكارهم الدينية التي تعتبر هذه الدنيا زائلة وتدعو الى التقشف والابتعاد
عن ملذاتها واهوائها وعلى الناس ان تسوسها وتقودها كلمات الخير والنور
والمحبة التي تجعل من العلاقات بين الناس قائمة على اساسها لان السلطة تمثل
القوة التي تقود الى العنف فقد ذكرنا ما جاء في الكتاب المقدس كنزاربا
التسبيح الثاني/ الوصايا عبارات فيها اشارة للابتعاد عن السلطة وقوتها
واسلحتها (يا اصفيائي … لا تقربوا الملوك والسلاطين والمردة في هذا العالم
ولا تثقوا بهم لا باسلحتهم ولا بحشودهم ، ولا تلووا اعناقكم للذهب والفضة
التي يكنزون انها سبب كل فتنة سيتركونها وراءهم يوم الى النار
يذهبون).______________
1- كنزا ربا/ الوصايا 2-الليدي دراور/الصايئة المندائيون
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى